سورة محمد - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)} [محمد: 47/ 15- 19].
صفة الجنة الموعود بها للمتقين القائمين بأوامر اللّه وطاعته ما تسمعون فيها كذا وكذا، فيها أنهار جارية من ماء غير متغير الطعم والريح واللون لطول مكثه، بل إنه ماء عذب فرات متدفق نقي، من شربه لا يظمأ أبدا، وفيها أنهار من حليب طازج، لم يتغير طعمه بحموضة أو غيرها، وفيها أنهار من خمر لذيذة الطعم، طيبة الشرب، ليست مرة أو كريهة الرائحة، ولا تسكر ولا تصدّع الشارب أو تذهب عقله، وإنما هي لذيذة للشاربين، وفيها أنهار من عسل صاف غير مشوب بمادة أخرى، حسن اللون والطعم والريح، ولهم في الجنة مختلف الثمار والفواكه ذات الألوان البديعة، والروائح الذكية، والطعوم الشهية، أساكن هذه الجنان أو أهؤلاء كمن هو خالد في النار إلى الأبد؟ وسقوا بالإكراه من ماء حار شديد الغليان، فقطّع أمعاءهم وأحشاءهم؟! والمراد: أمثل أهل الجنة، بهذه الأوصاف، كمن هو خالد مقيم دائما في النار؟
فتكون الكاف في قوله تعالى: {كَمَنْ} مؤكدة للتشبيه. و{فِيها أَنْهارٌ}: في موضع الحال، على هذا التأويل.
ثم ذكر اللّه تعالى حال المنافقين، فقال: ومن الكفار الخالدين في النار: منافقون يستمعون كلام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في خطبه ومجالسه، فلا يدركون منه شيئا لعدم إيمانهم، فإذا خرجوا من عنده قال بعضهم لأهل العلم الواعين لما سمعوا، على طريقة الاستهزاء والاستخفاف: ماذا قال النبي آنفا؟ أي في الساعة المتقدمة لهذا الوقت؟ أي ماذا قال قبيل وقتنا؟ والمراد: أنا لم نلتفت إلى قوله، ولم نأبه لكلامه، أو لا معنى لقوله ولا نفع له ولا قدر.
روى مقاتل: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد اللّه بن مسعود استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.
فوصفهم اللّه بأنهم هم أولئك المنافقون الذين طبع اللّه على قلوبهم، بسبب نفاقهم، فلم يؤمنوا ولم يهتدوا إلى الحق، ولم ينفذ الخير إلى قلوبهم، واتبعوا شهواتهم وأهواء نفوسهم في الكفر والعناد، أي تركوا اتباع الحق. والطبع على قلوبهم إما حقيقة واقعية، وإما استعارة بتشبيه قلوبهم التي لم يتسرب إليها الخير بالآنية المختومة.
وعلى عكسهم المؤمنون الذين طلبوا الهداية إلى طريق الخير والإيمان، فوفقهم اللّه تعالى، وشرح صدورهم، فآمنوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمروا به، وزادهم اللّه هدى بزيادة التفهيم والأدلة، وبالتوفيق للعمل الذي يرضاه، وأعانهم على التقوى، وأعطاهم إياها، أي جعلهم متقين له، والتقدير: تقواهم إياه.
ثم هدد اللّه المنافقين بما يجدونه في القيامة، وهو: هل ينتظر المنافقون والكافرون إلا مجيء القيامة التي تأتيهم فجأة، وهم غافلون عنها، وقد حدثت أماراتها وعلاماتها، منها بعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ومن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة (القيامة) حيث لا ينفعهم ذلك، كما في آية أخرى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى} [الفجر: 89/ 23].
وقوله تعالى: {فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها} إخبار مستأنف، فينبغي الاستعداد والخوف منها لمن حزم أمره ونظر لنفسه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بإصبعيه.
وبعد هذه المقارنة بين المهتدين والضالين ومصير كل فريق، أمر الله تعالى رسوله بالثبات على منهاجه وعلى استغفار ربه، فإذا علمت أيها النبي حال الفريقين: المؤمن والكافر، من السعادة والشقاوة، وعلمت بمجيء القيامة ومعرفة أشراطها (علاماتها) فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومراقبة النفس، واعلم أنه لا إله إلا اللّه، ولا رب سواه، وداوم على الاستغفار من الذنوب الصادرة منك على خلاف الأولى، والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، أي بالدعاء لهم بالمغفرة عن المعاصي، واللّه يعلم أعمالكم، ومتقلبكم، أي تصرفكم يقظة في أشغالكم نهارا، وسكونكم ومستقركم ليلا في منامكم في مضاجعكم وإقامتكم في قبوركم. وإدراك هذه المعلومات سبيل لغرس رقابة اللّه في النفس، سرا وعلانية، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
روى مسلم عن الأغر المازني قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر اللّه في اليوم مائة مرة».
حال المؤمنين والمنافقين في الدين:
يختلف حال المؤمنين والمنافقين وموقفهم من الدين أو الأحكام العملية، كالجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، أما المؤمنون فيجدّون في فهم دين اللّه تعالى وتنفيذه، ويحرصون على ظهوره وانتشاره في العالم، وأما المنافقون فيتكاسلون في تطبيق الدين ويحرصون على فساده وأهله. وكان المؤمنون يأنسون بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، واللّه تعالى جعل للوحي أمدا معينا ووقتا محددا لا يتجاوزه، فمدح اللّه المؤمنين على حرصهم على انتشار الدين، وذمّ المنافقين على تقاعسهم في الدين وتبرمهم من أحكامه، وصف اللّه تعالى في هذه الآيات الآتية حال الفريقين.


{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)} [محمد: 47/ 20- 23].
يتمنى المؤمنون المخلصون تشريع الجهاد، حرصا على ثوابه، ونيل درجات المجاهدين، وللدفاع عن أنفسهم وأموالهم، وإظهار عزتهم ورفعتهم، فيقولون: هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها ربنا بقتال الأعداء، فإذا أنزلت سورة محكمة، أي دائمة المشروعية، لا يقع فيها نسخ، يأمر اللّه فيها بالقتال، وصيرورته فرضا على المسلمين، فرح بها المؤمنون، وشق على المنافقين، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض وهو النفاق، ينظرون إليك أيها النبي- بسبب الجبن والخوف من لقاء الأعداء- نظر المحتضر الذي شخص بصره إلى السماء عند الموت، أو المغمى عليه، خوفا من قتال الأعداء، فالويل أي الهلاك لهم. وفي هذا تهديد للمنافقين، ووعيد بقرب هلاكهم، وافتضاح شأنهم.
فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه، أن تعودوا إلى سيرة الجاهلية، فتسفكوا الدماء وتفسدوا في الأرض بالبغي والنهب، وارتكاب المعاصي، وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق، ووأد البنات، ومقارفة سائر مفاسد الجاهلية. وكلمة (عسى) للتوقع، وهي من اللّه تفيد التحقق.
لكن طاعة وقول معروف: أحسن أو أمثل، فذلك هو الأمر المرضي لله تعالى، فإذا جدّ الحال ووجب، أي وفرض القتال، فلو صدقوا في ذلك القول، وفي القتال، وأطاعوا اللّه تعالى، وأخلصوا له النية، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة. ثم وبخهم اللّه تعالى على تقصيرهم، فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن الإسلام أو عن القتال وتنفيذ أحكامه، أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، فتسفكوا الدماء، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم، والنهب والسلب وسائر المعاصي، وتقطّعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وارتكاب سائر مفاسد الجاهلية، وبعبارة أخرى: فهل عسى أن تفعلوا إن توليتم غير أن تفسدوا في الأرض، وتقطّعوا أرحامكم؟
ثم صب اللّه عليهم اللعنة، فقال: أولئك الظالمون، وسفاكو الدماء بغير حق:
هم الذين أبعدهم اللّه من رحمته، وطردهم عنها، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق، وأعمى أبصارهم عن رؤية الحق، وعن النظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام اللّه تعالى، وشرعه في عباده، من تحريم الدماء والأموال بغير حق، وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، ويتضمن الأمر بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «وخلق اللّه تعالى الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم، فأخذت بحقوي الرحمن عز وجل، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك».
قال أبو هريرة رضي اللّه عنه: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}؟! أوضحت هذه الآيات موقف المنافقين المخزي من القرآن وتكاليفه العملية أو الواقعية، فهم يخافون من الجهاد، ويتنكرون لقول المعروف وطاعة الشرع الشريف.
وهم بطبيعتهم قوم جهلاء، يمارسون أفعال الجاهلية، ويميلون إليها: من الإفساد في الأرض، وتقطيع الأرحام، مما يوجب عليهم الطرد من رحمة اللّه، ومنع تسرب الخير والفكر الرشيد إلى قلوبهم.
تدبر القرآن الكريم:
أمر اللّه تعالى كل السامعين للقرآن العظيم بتدبر آياته وفهمها، وحذرهم من هجره، ووبخهم على الإعراض عنه، كي تتحقق الفائدة من استماع القرآن، ويبتعدوا عن الموبقات المهلكات التي يقعون فيها إذا لم يفعلوا ذلك. والذين آثروا الكفر وانحازوا إليه، إنما فعلوا ذلك، لا جهلا بمصداقية القرآن والنبوة، وإنما يعد تبيّن حقيقة الإسلام بالأدلة القاطعة، والمعجزات النبوية الباهرة. وسيلاقون الأهوال العظام عند الموت، لاتباع أهوائهم، واللّه قادر على كشف أحوالهم، ولكنه تركهم سادرين في غوايتهم لاختبارهم في الدنيا، وسيجازيهم بما عملوا، كما جاء في الآيات الآتية:


{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)} [محمد: 47/ 24- 32].
أفلا يتفهم المنافقون وغيرهم آيات القرآن، فيعملوا بمواعظة، ويقتنعوا بأدلته، أم (بمعنى بل وألف الاستفهام) على قلوبهم أغطية منعتهم الإيمان!! والآية توبيخ لهم، لتركهم هدي القرآن وبيانه.
إن الذين فارقوا الإيمان، ورجعوا إلى الكفر، من بعد تبيّن الهدى عند الداعي إليه، بالأدلة الواضحة، والمعجزات الظاهرة، زين لهم الشيطان خطاياهم، وسهّل لهم الوقوع فيها، وحسّن لهم الكفر، وخدعهم بالأماني المعسولة والأمنيات الزائفة.
قال قتادة: إنها نزلت في قوم من اليهود، كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، ثم ارتدوا عن الهدى.
وقال ابن عباس: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم نافقت قلوبهم.
ثم أوضح اللّه مظاهر ضلالهم وهي:
ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان من المنافقين: بسبب كراهية ما نزّل اللّه تعالى في قرآنه، وقولهم للمشركين واليهود: سنطيعكم في بعض الأمور، كعداوة النبي ومخالفة ما جاء به، والتخلف عن الجهاد معه، واللّه عالم بتآمرهم سرا، وبكل ما بيّتوه من مكائد ومؤامرات. وهذا مثل قولهم في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ...} [الحشر: 59/ 11].
وحالهم عند الموت في غاية السوء، فإن الملائكة عند قبض أرواحهم تستخرجها بعنف وقهر، وتضرب وجوههم وظهورهم، أي إنهم إذا خافوا من فرض القتال وقراع الأعداء، فكيف يكون فزعهم وجزعهم إذا توفتهم الملائكة؟!.
وسبب أهوال موتهم: اتباعهم ما أسخط اللّه، من الكفر والمعاصي، وتآمرهم مع أعداء اللّه، على معاداة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وكراهيتهم ما يرضي اللّه من الإيمان الصحيح وتوحيد اللّه وطاعته، فأبطل اللّه أعمالهم الخيرية قبل الردة وبعدها كالصدقة وإغاثة الملهوف، لأنهم فعلوها في حال الكفر، كما جاء في آية أخرى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)} [الفرقان: 25/ 23].
ثم وبخ اللّه المنافقين وهددهم بقوله: أيظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد وعداوة للمؤمنين أن اللّه لن يكشف أحقادهم وعداوتهم؟ إنهم مخطئون في هذا، فالله عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى.
ولو نشاء أيها النبي لعيّناهم بالأسماء والتعريف التام ولعرفتهم بعلاماتهم المميزة، ولكنه تعالى لم يعينهم إبقاء عليهم وعلى قراباتهم، وو اللّه لتعرفنهم في لحن القول، أي الأسلوب المعتمد على التعريض والتلويح، والمنحى والمقصد، واللّه يعلم جميع أعمالهم، فيجازيهم عليها من خير أو شر، وهذا وعد ووعيد، روى مسلم وأحمد عن حذيفة ما يدل على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عرّفه بهم أو ببعضهم.
ومنهج الحياة: الاختبار، فلنختبرنكم أيها المنافقون وغيركم بالأوامر والنواهي أو لنعاملنكم معاملة المختبر، ومنها الجهاد في سبيل اللّه، حتى نتبين أو نعلم علم ظهور وانكشاف المجاهدين في سبيل اللّه بحق، والصابرين على دينه ومشاق التكليف، ونظهر أخباركم ونكشفها للناس، ليعرف الطائع من العاصي. وعلم اللّه تعالى بالمجاهدين قديم أزلي. وإنما المراد إظهار جهادهم إلى الوجود، وتبيان تكسبهم الذي يتعلق به ثوابهم.
إن الذين كفروا بالله ووحدانيته، وصدّوا الناس عن دينه وطريق الحق، بمنعهم من الإسلام واتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، ومخالفتهم إياه، فكانوا في شق أو جانب والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في شق، بعد أن تبينوا معالم الهدى عند الداعي إليه، لن يلحقوا أي ضرر بالله، وسيبطل اللّه أعمالهم، ويبدد مكرهم، ولا يثيبهم على أعمالهم يوم القيامة.
نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل، بعد تبيّنهم أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من التوراة. وقيل: نزلت في قوم من المنافقين، وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين في سفرة بدر.
إطاعة اللّه والرسول:
لم يترك القرآن الكريم شيئا من أمور الدين إلا بيّنه، فإن اللّه تعالى أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، وأوضح حكم من مات من الكفار على كفرهم، وأنهم لا يعفون من العقاب، ونهى المؤمنين عن الدعوة إلى السلم أو المسالمة في حال القوة والتفوق، وحرّضهم على الجهاد بالنفس والمال، ورغبّهم في الإنفاق في سبيل اللّه، وحذّرهم من التقصير بإبدالهم أقواما آخرين، هم أفضل لإقامة الدين، ونصرة الإسلام، وكل ذلك ظاهر في الآيات الآتية:

1 | 2 | 3